الصراع مع الصين وروسيا.. هل تنجح واشنطن في تجنب فخ نابليون؟

الصراع مع الصين وروسيا.. هل تنجح واشنطن في تجنب فخ نابليون؟


تعود المنافسة بين القوى الكبرى لتكون العنوان الأبرز في العلاقات الدولية الراهنة، غير أن الخلاف حول طبيعتها لا يزال قائما.

فهناك من يعتبرها استمراراً لصراع أيديولوجي قديم منذ الحرب الباردة، وهناك من يراها انعكاساً لتحولات ميزان القوى العسكرية، فيما يركز آخرون على دور القادة وخياراتهم السياسية في تشكيل المشهد العالمي.

  • أمريكا تستعين بالحلفاء الآسيويين لمواجهة تفوق الصين الكاسح في البحر
  • أمريكا تُحصن «جناح الناتو الشرقي».. تعزيز الردع عند تخوم روسيا

لكن خلف هذه التفسيرات المباشرة تكمن جذور أعمق لهذا الصراع، مرتبطة بجغرافيا العالم وبمنطقين متباينين في تعريف القوة ومصادرها: منطق قاري يضع الأرض والسيطرة المكانية في صلب اعتباره، ومنطق بحري يرى في التجارة والانفتاح الاقتصادي سرّ النفوذ والازدهار.

بين البر والبحر.. معادلة جيوسياسية ممتدة

وبحسب تحليل لمجلة «فورين أفيرز»، فإن جزءاً كبيراً من الصراعات الراهنة حول النظام الدولي يمكن فهمه في ضوء هذه الجدلية القديمة بين القارة والبحر.

فالدول القارية، بحكم موقعها الجغرافي وتعدد جيرانها، تميل إلى اعتبار الأرض المصدر الرئيسي للقوة، وتسعى إلى تأمين حدودها عبر جيوش ضخمة، بل والتوسع في محيطها إذا اقتضت الحاجة.

في المقابل، فإن القوى البحرية – المحمية نسبياً بالمحيطات – وجدت في التجارة والصناعة والانفتاح الاقتصادي مصدراً أوثق للنفوذ، ما سمح لها بتطوير استراتيجيات أقل صدامية وأكثر تعاوناً، حيث يُنظر إلى الجوار على أنه فرصة للشراكة، لا تهديداً وجودياً.

القارة.. الأمن أولاً ولو على حساب الازدهار

القوى القارية الكبرى مثل روسيا والصين تتحرك وفق منطق يضع الأمن في مرتبة متقدمة على أي اعتبار آخر.

في هذا الإطار، تصبح الجغرافيا معضلة دائمة: حدود واسعة، جيران متعددون، وتحديات أمنية تستلزم عسكرة الاقتصاد والمجتمع.

وهكذا، فإن النموذج القاري يقوم على بناء منظومات دفاعية وهجومية، وفي أحيان كثيرة على تقسيم النظام الدولي إلى مناطق نفوذ واضحة.

التاريخ يبين أن هذا النموذج يولد دورات متكررة من التصعيد، إذ يحتاج قادته إلى «عدو خارجي» يبررون به التشدد الداخلي.

البحر.. الانفتاح مصدر القوة

أما القوى البحرية مثل الولايات المتحدة أو بريطانيا في السابق، فقد وفّر لها البحر هامش أمان جعلها أقل عرضة للغزو المباشر، وأكثر قدرة على تحويل مواردها نحو التجارة والصناعة والابتكار.

في هذا السياق، برز مفهوم «اللعبة المفتوحة» حيث لا يقوم التنافس على منطق صفرى (الرابح يأخذ كل شيء) بل على تبادل المنافع.

ومن هنا نشأت فكرة البحار كممتلكات مشتركة، وفكرة القانون الدولي التي وضع أسسها مفكرون من جمهوريات تجارية مثل هولندا.

ومنذ الحرب العالمية الثانية، ساهمت القوى ذات التوجه البحري في بناء مؤسسات دولية إقليمية وعالمية لتأمين الملاحة وتعزيز الانفتاح الاقتصادي.

نابليون.. وفخ التوسع القاري

التجربة البريطانية خلال الحروب النابليونية تمثل درساً محورياً لواشنطن اليوم.

فقد اعتمد نابليون على فرض السيطرة البرية وحاول إخضاع بريطانيا عبر حصار اقتصادي (النظام القاري)، غير أن هذا الحصار أضر بالاقتصادات الأوروبية أكثر مما أضر بالاقتصاد البريطاني.

بريطانيا، المحمية ببحرها وأسطولها، واصلت التجارة مع أسواق بديلة، بل وظفت ثروتها لتمويل خصوم نابليون وفتح جبهات جانبية أرهقته.

وعندما اتخذ القرار الكارثي بغزو روسيا، كان المشروع الإمبراطوري قد بدأ يتداعى. الدرس واضح: التوسع القاري المفرط يقود في النهاية إلى استنزاف القوة وإلى الانهيار.

أمريكا بين خيار البحر وضغط القارة

اليوم تواجه الولايات المتحدة تحدياً مشابهاً. فهي قوة بحرية كبرى بنت نفوذها على التجارة وحماية طرق الملاحة والتحالفات الدولية، لكنها تجد نفسها في مواجهة قوى كبرى أخرى مثل روسيا والصين، تسعى كل منها – وفق منطقها الجغرافي والتاريخي – إلى تعزيز نفوذها في محيطها المباشر.

هنا يطرح السؤال: هل ستتمسك واشنطن باستراتيجيتها البحرية، أم تنزلق إلى منطق القارة عبر الحواجز التجارية، المواجهات المباشرة، أو تقويض المؤسسات الدولية؟.. وهو ما تجيب عليه دروس التاريخ ومخاطر الحاضر.

فالتجارب التاريخية – من ألمانيا في الحربين العالميتين إلى اليابان في ثلاثينيات القرن الماضي وصولاً إلى الاتحاد السوفياتي – تؤكد أن الإفراط في التوسع القاري يقود إلى الانهيار، مهما بلغت قوة الدولة في البداية.

بالمقابل، فإن القوى التي ركزت على الانفتاح التجاري والبحري، مثل بريطانيا في القرن التاسع عشر أو الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، استطاعت أن تخرج من صراعات كبرى أكثر قوة وثراء.

لكن التحديات اليوم أعقد من أي وقت مضى، إذ تتداخل ملفات أوكرانيا والشرق الأوسط وأفريقيا مع وجود قوى نووية متعددة، ما يجعل أي مواجهة مباشرة محفوفة بمخاطر هائلة.

ووفق «فورين أفيرز» فإن الصراع الراهن ليس مجرد منافسة عسكرية أو اقتصادية، بل هو اختبار لرؤيتين مختلفتين لمستقبل النظام الدولي: الأولى ترى في السيطرة على الأرض وضبط الحدود مصدر الأمن، والثانية ترى أن الانفتاح البحري والتعاون الاقتصادي هو السبيل إلى الازدهار والاستقرار.

وخلص التحليل إلى أن نجاح واشنطن يتوقف على قدرتها في الاستفادة من خبرة التاريخ، وتجنب فخ نابليون الذي استنزف نفسه في صراعات قارية بلا نهاية. فإذا التزمت باستراتيجيتها البحرية – التجارة، التحالفات، المؤسسات – قد تتمكن من إدارة «حرب باردة ثانية» دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة. أما إذا انحرفت نحو منطق التوسع القاري، فإنها قد تخاطر بفقدان ميزتها الاستراتيجية الأساسية.

aXA6IDUxLjkxLjIyNC4xNDQg جزيرة ام اند امز FR