لا تورا بورا جديدة على تراب الجنوب اليمني

لم يعد خافيًا على أحد أن الجنوب اليمني خرج من تجربة الوحدة (1990) مثقلاً بجراح غائرة صنعتها آلة التصدير الديني المتشدد القادمة من الشمال.
لم تكن تلك المراكز الدعوية محايدة أو تعليمية، بل تحولت سريعًا إلى أدوات بيد النظام السابق (علي عبد الله صالح) لإضعاف الجنوب وضرب نسيجه الاجتماعي، حتى غدت في نظر الجنوبيين قنابل موقوتة لا يطمئنون إليها ولو رفعت شعار القرآن، ولا يثقون بها ولو تعلّق شيوخها بأستار الكعبة.
لكن الحقيقة الأعمق أن هذا الرفض الجنوبي له جذوره في هوية ممتدة عبر العصور، فالجنوب لم يكن يومًا بيئة للتشدد، بل نسج عبر تاريخه على ثقافة متسامحة، معمدة بالمعرفة والعلوم، لقد شكّل الامتداد الحضاري للهجرات الحضرمية نحو المجتمعات الآسيوية والهندية والأفريقية رافدًا فكريًا وروحيًا جعل من الإسلام الجنوبي نموذجًا وسطيًا منفتحًا، يدخل الناس به عبر التجارة والقدوة الحسنة لا عبر السيف. في حضرموت والمكلا وعدن، وُلدت قيم الاعتدال والانفتاح بالمدرسة الوسطية الحضرمية قبل قرون من أن تطأها أقدام تيارات الغلو.
وحين دخل الجنوب عهد السلطنات والمشيخات، ثم زمن استعمار بريطانيا لعدن، شهدت العاصمة حركة اجتماعية وثقافية غير مسبوقة في شبه جزيرة العرب، تأسست النقابات العمالية، ونشط العائدون الحاملون للشهادات الجامعية من عواصم التنوير العربي آنذاك: القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت، وبرزت في عدن والمكلا حركة تقدمية صنعت مسارًا نحو مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، وتوّجت بجلاء الاستعمار وإعلان الاستقلال الأول عام 1967، وكان في طليعة تلك الحركة رموز جنوبية بارزة مثل شيخان الحبشي ومحمد علي الجفري، اللذين حملا مشروعًا وطنيًا واعيًا، أقرّ بالهوية الجنوبية، وأعلن أن الاستقلال ليس مجرد خروج من الاستعمار، بل بناء وطن حرّ يقوم على التنوير والتعددية والاعتراف بالذات.
هذه الذاكرة السياسية والفكرية المتسامحة هي التي تفسّر لماذا يبدو خطاب الحجوري ومحمد الإمام غريبًا ونافراً في الجنوب، فهو ببساطة جسم دخيل على هوية صنعتها قرون من الانفتاح والتنوير وروّاد وطنيون رسخوا معنى الهوية والاستقلال، ومن ما يبدو أنه تجسيد لمفهوم الجنوب عبر التاريخ والأزمنة فكما كانت يافع حصناً للدعوة في تريم وحامية لها ها هي الأيام تعود وتكون يافع الحصن الأول لرفض تواجد الغلو والتطرف.
حين اندلعت حرب 1994، لم يكن السلاح وحده هو الذي صوّب إلى صدور الجنوبيين، بل خرجت فتاوى التكفير والتحريض من مراكز دينية شمالية تدعو إلى الجهاد ضد الجنوب باعتباره “ملحدًا” وانفصالياً” ومرتدًا”، تلك الحرب لم تكن مجرد معركة عسكرية، بل معركة هوية جرى فيها استخدام الدين كسلاح لتبرير الغزو والنهب والإقصاء، ومنذ تلك اللحظة، تكوّنت في الذاكرة الجمعية الجنوبية قناعة راسخة بأن هذه المراكز لا تحمل رسالة شرعية، بل مشروعًا سياسيًا مموهًا بغطاء ديني.
لقد أثبتت الوقائع أن مراكز الحجوري ومحمد الإمام وغيرهما من رموز هذا التيار لم تكن سوى مفرخات أيديولوجية للتشدد، خرج من تحتها المئات من العناصر التي التحقت بتنظيم القاعدة أو داعش أو أنصار الشريعة، وجميعهم حملوا بنادقهم ليقاتلوا في عدن وأبين وشبوة وحضرموت، لكنهم لم يطلقوا طلقة واحدة تجاه عناصر الشمال أو تجاه الحوثي، أليس هذا كافيًا ليكشف طبيعة المهمة؟، الجنوب هو المستهدف الأول والأخير، لا نصرة الدين ولا مواجهة الباطل.
اليوم، وبعد عقود من الدم، يدرك الجنوبيون أن فتح باب جديد لمثل هذه المراكز يعني فتح ثغرات أمنية في مجتمع يحاول بناء استقراره، التجربة علّمتهم أن هذه المراكز ليست معاهد لتعليم القرآن والفقه، بل بوابات لاختراق المجتمع، وتحويل أحياء ومدن كاملة إلى بيئات خصبة للتطرف، الجنوب الذي يحاول أن يؤسس لدولة نظام وقانون لا يحتمل أن يتحول إلى “تورا بورا” جديدة على مرأى ومسمع من العالم.
الخطر لا يقف عند حدّ نشر خطاب متشدد، بل يمتد إلى محاولة طمس الهوية الدينية الجنوبية، واستبدالها بخطاب يخدم مشاريع سياسية غير جنوبية، هنا يكمن جوهر الصراع: الجنوب لا يرفض الدين، لكنه يرفض أن يُستخدم الدين أداة لاختراقه وإعادته إلى بيت الطاعة الشمالي، فالمجتمع الجنوبي، بطبيعته التاريخية، أكثر انفتاحًا وتسامحًا، ولا يقبل أن يُفرض عليه خطاب ديني غريب يجرّه إلى صراعات لا تشبهه.
الجنوبيون اليوم باتوا أكثر حساسية تجاه أي محاولة اختراق قادمة من الشمال، سواء أكانت اقتصادية أو سياسية أو دينية، تجربة ثلاثة عقود من الوحدة كافية لزرع الريبة العميقة في النفوس، ومن هنا، فإن أي حديث عن مراكز دينية شمالية في الجنوب يُستقبل بريبة ورفض قاطع، لأنها لا تُقرأ في إطارها الدعوي، بل في إطارها السياسي والأمني.
العالم بدوره صار أكثر وعيًا بخطر هذه المراكز، القوى الإقليمية والدولية تراقب أي نشاط قد يعيد إنتاج بيئة خصبة للتطرف في الجنوب، فالمجتمع الدولي الذي عانى من “القاعدة في جزيرة العرب” لن يقبل بتكرار التجربة، ولن يتسامح مع عودة “مدارس” تتحول إلى مصانع لإنتاج المجاهدين والذئاب المنفردة المتطرفة.
الجوهر إذن أن رفض الجنوبيين لهذه المراكز ليس رفضًا للدين، ولا حربًا على التعليم الشرعي المنبض وسطياً، بل هو رفض لتسييس الدين وتوظيفه كأداة اختراق سياسي وأمني، الجنوب يريد أن يحمي إسلامه الوسطي، ويحافظ على هويته، ويؤسس لاستقرار لا مكان فيه للخطابات المتشددة التي مزّقت العالم العربي وأغرقت بلدانًا بأكملها في الدماء.
الذاكرة الجنوبية ليست صفحة بيضاء يمكن أن تُمحى بالوعود أو بالشعارات، ما عاشه الجنوبيون منذ 1990، وما تعرّضوا له من فتاوى وتكفير ونهب وقمع، لن يختفي من وعيهم الجمعي، كل دعوة لفتح مراكز جديدة من هذا التيار تعيد إلى الأذهان صور حرب 1994 ومجازر الإرهاب في عدن وأبين، ولذلك، فإن رفضهم ليس انفعالًا آنياً، بل موقف مبني على تجربة مرة ومكلفة.
إن إقامة مراكز للحجوري ومحمد الإمام في الجنوب أشبه بمحاولة زرع ألغام مؤجلة في جسد مجتمع يبحث عن التعافي، الجنوب الذي عانى من حروب وصراعات وانقسامات، لا يحتمل أن يُعاد إنتاج بيئات تشدد جديدة فوق أرضه، رفض الجنوبيين لهذه المراكز هو دفاع عن هويتهم، عن تاريخهم الوسطي، وعن رموزهم الوطنية التي حملت مشروع الاستقلال، وعن مستقبلهم الذي يريدونه خاليًا من التطرف، الدين لله، والوطن للجميع، وما بينهما لا مكان فيه للمتاجرين بالدين ولا للمتلاعبين بعقول الصبيان والشبان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة